روائع مختارة | قطوف إيمانية | عقائد وأفكار | طاقة التحمل ـ2

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > قطوف إيمانية > عقائد وأفكار > طاقة التحمل ـ2


  طاقة التحمل ـ2
     عدد مرات المشاهدة: 2110        عدد مرات الإرسال: 0

 ذكرت في المقالة السابقة أن لكل شيء طاقة محدودة على التحمل، وأن علينا مراعاة تلك الطاقة، وإذا لم نفعل ذلك، فإننا سنخسر ذلك الشيء، ووعدت بأن أتحدث اليوم عن بعض الأمثلة والتطبيقات التي تفسر هذا المبدأ وتوضحه في العديد من المجالات.

والحقيقة أن قائمة الأمثلة طويلة، لكن سأقتصر على خمسة منها في المفردات الآتية:

1= يحاول الناس بصورة شبه دائمة أن يحققوا مصالحهم في إطار مبادئهم حتى اللص الذي دخل بيتاً ليسرق المال فإنه في العادة لا يقتل إذا أمكنه الحصول على المال دون الإحتياج إلى القتل، وهذا يعود إلى أن الإنسان مهما تجرد من القيم والمبادئ فإنه يظل فيه شيء من النزعة الإنسانية وشيء من الحنين إلى السمو والنقاء، لكن لهذا حدودًا على التحمل، فإذا وُضع الإنسان في ظروف بالغة السوء من الفقر والعوز والقلة مثلاً فإن جهاز المناعة الأخلاقي لديه يتعرض للإنهيار بسبب الشعور بالظلم الإجتماعي وبسبب قدرة العقل الفائقة على تأويل القيم إلى حد إفراغها من مضامينها.

ومن هنا فإننا قد لا نستغرب -وإن كنا لا نسوَّغ ولا نبيح ولكن نفهم- إذا وجدنا الفلسطيني الجائع والمحاصر والذي تخلى عنه إخوانه في العالم، وقد مد يده للتعاون مع اليهود إلى درجة وضع علامات على سيارات قادة المجاهدين حتى تهتدي إليها طائرات اليهود، وتقوم بقصفها، وقتل من فيها.. وهذا حدث في كل البلاد الإسلامية وغير الإسلامية أوقات الإستعمار، وقد أشار أحد علماء المسلمين قديماً إلى شيء قريب من هذا حين عتب عليه بعض أصدقائه قبوله لهدية من حاكم طاغية، حيث قال: لم أقبل هديته إلا حين حلت لي الميتة، إن الرادع الديني أو الوطني أو الإنساني موجود بنسب متفاوتة لدى جميع الناس، لكنه لدى الأغلبية ينهار، أو يكاد إذا حُمَّل فوق طاقته.

2= نظرت بعض الجماعات الإسلامية إلى نفسها فوجدت أنها الأفضل تنظيماً والأوسع إنتشاراً وربما الأقدم في ساحة العمل الدعوي، وهذا ولا شك يمنحها شعوراً بالتفوق، ويعطيها على الأرض بعض الحقوق، وهذا طبيعي لكن بعض تلك الجماعات لم تنتبه لنفسها، فتولدت لديها عقدة الأخ الأكبر فصارت تتصرف كما يتصرف الأخ الأكبر في الأسرة، حيث على الإخوة الصغار السمع والطاعة وتلقي الأوامر والنصائح، وحيث فقد روح المبادرة للتنسيق والتعاون، بل ضعف الاستجابة لمحاولات الآخرين الإنفتاح عليها.

وقد أدى ذلك إلى إعراض الجماعات الأصغر حجماً عنها، وبدأ التنافس، وما يجره من مظاهر الإنحطاط المدني يشتعل في الساحة الدعوية، إن للقوة دائماً حقوقاً، يقدرها الناس، لكن أصحاب القوة كثراً ما يضخمون تلك الحقوق، أي يحمّلون قوتهم وإمتيازهم وتفوقهم ما لا تحتمل من الحقوق والميزات، وكانت النتيجة خسران الإمتياز كله بسبب خسران العلاقة مع الجماعات الأخرى والتي يمكن أن تكون معبراً لذلك الامتياز، وقد أشار زهير إلى معنى يلتقي جزئياً مع ما نقوله حين قال:

ومن يكُ ذا فضل فيبخل بفضله *** على قومه يُستغن عنه ويذممِ

3= قد تعودنا في مجالات الأعمال الدعوية والخيرية أن نجد دائماً القليل ممن يملك الحماسة المتدفقة والحركة الدائبة والأريحية المتوهجة مع كثرة السواد وتزاحم الرؤوس والأقدام، والذي يحدث دائماً هو أن كل القاعدين وكل أولئك الذين يحبون أن يروا الآخرين يعملون -دون أن يعملوا هم شيئاً- يتجهون إلى ذلك الشخص النبيل النشط المتحرك، فيلقون عليه المزيد المزيد من المهمات والمسؤوليات، وهو لشهامته يتقبل، ويعد ويحاول... ولكن بما أن لكل شيء طاقة تحمَّل فإن الناس يبدؤون بملاحظة الفوضى والتقصير في عمله وتبدأ سهام النقد بتناوشه... وسبب ذلك يعود إلى عدم إدراكه وإدراكهم أن الكم في نهاية المطاف لا يكون إلا على حساب الكيف.

4= تشعر الولايات المتحدة الأمريكية أنها الدولة الأولى في العالم على المستوى التقني والإقتصادي والعسكري، وليس هناك من ينازعها في هذا، وهذا الشعور جعلها توسع مجالها الحيوي ليصبح من غير حدود، فالعالم إمتداد طبيعي لمزرعة بوش في تكساس، ويشعر اليهود أنهم يشكلون الأقلية الساحقة على مستوى العالم، ويكفي أنهم مسيطرون على آلية إتخاذ القرار في الولايات المتحدة ونحن أيضاً لا نرتاب في ذلك، وصار اليهود من خلال تصرفاتهم وتصريحاتهم يرسلون رسائل للقاصي والداني بأنهم لا يأبهون لأحد، وليس من حق أحد أن يراجعهم في شيء.

اليهود الأمريكيون يعتمدون في مواقفهم العالمية وفي حركتهم الكونية على ما لديهم صلات هيمنة بكل مراكز القرار في العالم وعلى ما لديهم من نفوذ إعلامي طاغٍ وشامل، لكن بما أن لكل شيء طاقة على التحمل، فإن العالم يكتشف الحقائق، وبدأ يتململ على نحو شديد التهذيب من الطغيان الأمريكي والإسرائيلي، وقد فجع اليهود بنتائج إستطلاع الرأي الذي نظمه الاتحاد الأوروبي حول الدول الأشد خطورة على السلام العالمي، وقد ذكر الأوروبيون في ذلك الاستطلاع أن إسرائيل هي الدولة الأخطر على أمن العالم، تليها حليفتها الولايات المتحدة الأمريكية.

ولعل اتخاذ إسبانيا قرار سحب قواتها من العراق في أسرع وقت ممكن يشكل الصدمة الثانية لأمريكا والمؤشر الأخير في سباق المؤشرات الدالة على أن أمريكا واليهود قد حملوا نفوذهم المالي والإعلامي والسياسي ما لا يحتمل من الجرائم والوقاحات، ولذا فإنها بدأوا يحسرون توظيفات ذلك النفوذ على نحو تدريجي.

5= كثيراً ما شاهدنا صداقات تتصدع وتضمحل، وكثيراً ما شاهدنا الأقرباء وقد فشت فيهم النزاعات والأحقاد والبغضاء، وكثيراً ما يكون السبب في كل ذلك هو أن الناس حمّلوا الصداقات والقرابات ما لا تحتمل من التبعات والتكاليف، نحن جميعاً ندرك ونقر أن للقريب حقوقاً وأن للصديق أيضاً حقوقاً، لكن الذي يحدث أننا نفاجأ بأن أقرباءنا وأصدقاءنا يريدون من الحقوق والمساعدات ما يتجاوز كثيراً توقعاتنا وأحياناً طاقاتنا، وهنا تبدأ المشكلة، حيث الإتهام بالتقصير من جانب والإعتذار والتنصل والتهرب والإبتعاد من الجانب الآخر.

إن ما بين الناس من ود ومشاعر طيبة، وما بينهم من قرابة ورحم يتحمل ولا شك طلب المعونة والخدمة، ولكن ليس من غير حدود، إن العلاقات تدوم وتدوم إذا قامت على قدر جيد من التكافؤ والندية، فإذا تحولت إلى علاقات لإنتفاع أحد الأطراف وإستغلالها من قبله، فأنها تنهار، وقد تنقلب إلى عداوة مستحكمة، إن كل صديق وكل قريب يقدم لأصدقائه وأقربائه شيئاً ما وينتظر منهم شيئاً، ومن المهم ألا ينتظر أكثر مما قدم إذا ما أراد للمودة أن تستمر.

إن الدرس الذي نخرج به من كل ما ذكر هو ألا نعلَّق توازننا العام ولا مستقبلنا ولا صلاح شؤوننا على شيء وحيد وفريد، حتى لا ينهار ذلك الشيء في نهاية الأمر، ونشعر أننا خُذلنا في ساعة كنا أحوج ما نكون فيها إلى المعونة والمؤازرة. والله مولانا.

المصدر: موقع د.عبد الكريم بكار.